· التذوق الفني والقيم :
في كثير من شئون حياتنا نعمد إلى إصدار الأحكام باستمرار ، حيث نقرر أي الأفعال صائب ، وأي قطعة من اللباس تلاءم متطلبات المناسبة الاجتماعية ، أو رأي من هو الصواب ؟؟ وفي مجال الفنون نجد أن الاهتمام بالقيم يجد طريقه في الإفصاح عن تجاوب الجمهور مع الفنون البصرية شِأنه في ذلك شأن تجاوبه مع حقول النشاط الأخرى ، وغالباً ما يطرح الواحد منا تساؤلات مثل : ( كيف يتسنى لنا أن نعرف أن هذا الشيء جيد ؟ ومن هو الذي يُقرر ما هو الجيد وما هو الرديء ؟ ) وفي مجتمع يُعطي مسألة انتقاء الخيارات الصائبة أهمية استثنائية تبرز الرغبة في وضع أسس للاختيار الصحيح في الفنون بحقولها المختلفة ، والتساؤل الرئيس هو : هل يُشترط أن يهدف ( التذوق الفني ) إلى تطوير قابلية الأفراد ليكون باستطاعتهم إصدار الأحكام الجمالية ؟؟ بحيث نقول إن هذه الصورة جيدة وتلك رديئة ، هذه البناية عظيمة وتلك هزيلة ، هذه القطعة النحتية رائعة وتلك متواضعة ؟ وماذا تعني الكلمات التي تدلنا على قيمة الشيء مثل ( رائعة ، وعظيمة ، وجيدة ، ورديئة ، ومتواضعة ، وهزيلة ) حين تُطبق على الفنون البصرية ؟؟
لعلنا إذا افترضنا أن هناك معياراً شاملاً مُعيناً يُمكن الأخذ به في الفنون البصرية ، فإن تطبيق اصطلاحات القيمة مثل ( جيد ، ورديء ) وغيرها يوحي بأن الناقد الذي يقوم بالتقويم على بينة ومعرفة تامتين بهذه المصطلحات وأبعادهما ، كما أنه قادر على تحليل الموضوع الفني وتطبيق هذه المصطلحات عليه بتجرد وموضوعية ، إن مسألة وضع قيم مُطلقة في مجال الجماليات سبق أن شغلت الفلاسفة قروناً ، وقد حاول الكثير من المتخصصين في علم الجمال أن يضعوا نظاماً تقويمياً للفنون ، لكن أياً من هذه الأنظمة لم تثبت أهليته ، فالمحكمين بلا شك يشرعون في تطبيق الأحكام التي أنشئوها ، وهم عند هذه النقطة يواجهون مشكلات أساسية حيث من المحال أن يتجرد المرء من استجاباته الشخصية وقيمه المجتمعية متوقفاً عند ممارسته لمهمته كمحكم فقط !!
ومن الصعب أيضاً تطبيق القواعد والقيم الفنية التي كانت تناسب الماضي على أعمال الفن المعاصر والتي هي بطبيعتها تُنكر وتتحدى التقاليد الموروثة ، والمثال القائم على هذا الارتباك الذي يحصل لدى تطبيق القيم التقليدية على أشكال الفن المعاصر نجده في ردود الفعل العامة والنقدية ، والتي واجهت المصورين الانطباعيين في النصف الأخير من القرن التاسع عشر ، فقد قابل الجمهور والنقاد وأمناء المتاحف معظم الأعمال الفنية التشكيلية والتصويرية لهؤلاء الفنانين بالرفض والاستنكار لأنها أدخلت طرائق في استعمالات الزيت والألوان لم تكن معروفة آنذاك ، فرسوم ( مونيه ، وبيسارو وغيرهما ) والتي تُعد اليوم دون أدنى شك أعمالاً فنية رائعة ، سبق أن استهجنها الحكام ورفضها الجمهور واعتبروها أعمالاً لا قيمة لها ، وأنها مُجرد شطحات لشرذمة من الأفاقين والمجانين الذين جانبوا ما يجب أن تكون عليه الأساليب الفنية السائدة في تلك الأزمنة !!
· ناثان نوبلر ( 1992م ) : حوار الرؤية – مدخل إلى تذوق الفن والتجربة الجمالية . ترجمة : فخري خليل ، مراجعة : جبر إبراهيم جبرا . بيروت : المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ط1 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق